فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية من القرى إلا وقد أرسل إليها من ينذرها عذاب الله، إن هي عصت ولم تؤمن، كما قال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا} وجمع منذرون، لأن {من قرية} عام في القرى الظالمة، كأنه قيل: وما أهلكنا القرى الظالمة.
والجملة من قوله: {لها منذرون}، في موضع الحال {من قرية}، والإعراب أن تكون لها في موضع الحال، وارتفع منذرون بالمجرور إلا كائنًا لها منذرون، فيكون من مجيء الحال مفردًا لا جملة، ومجيء الحال من المنفي كقول: ما مررت بأحد إلا قائمًا، فصيح.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف عزلت الواو عن الجملة بعد إلا، ولم تعزل عنها في قوله: {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم} قلت: الأصل عزل الواو، لأن الجملة صفة لقرية، وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف، كما في قوله: {سبعة وثامنهم كلبهم}. انتهى.
ولو قدرنا لها منذرون جملة، لم يجز أن تجيء صفة بعد إلا.
ومذهب الجمهور، أنه لا تجيء الصفة بعد إلا معتمدة على أداة الاستثناء نحو: ما جاءني أحد إلا راكب.
وإذا سمع مثل هذا، خرجوه على البدل، أي: إلا رجل راكب.
ويدل على صحة هذا المذهب أن العرب تقول: ما مررت بأحد إلا قائمًا، ولا يحفظ من كلامها: ما مررت بأحد إلا قائم.
فلو كانت الجملة في موضع الصفة للنكرة، لورد المفرد بعد إلا صفة لها.
فإن كانت الصفة غير معتمدة على أداة، جاءت الصفة بعد إلا نحو: ما جاءني أحد إلا زيد خير من عمرو، التقدير: ما جاءني أحد خير من عمرو إلا زيد.
وأمّا كون الواو تزاد لتأكيد وصل الصفة بالموصوف، فغير معهود في كلام النحويين.
لو قلت: جاءني رجل وعاقل، على أن يكون وعاقل صفة لرجل، لم يجز، وإنما تدخل الواو في الصفات جوازًا إذا عطف بعضها على بعض، وتغاير مدلولها نحو: مررت بزيد الكريم والشجاع والشاعر.
وأما {وثامنهم كلبهم} فتقدم الكلام عليه في موضعه.
{وذكرى}: منصوب على الحال عند الكسائي، وعلى المصدر عند الزجاج.
فعلى الحال، إما أن يقدر ذوي ذكرى، أو مذكرين.
وعلى المصدر، فالعامل منذرون، لأنه في معنى مذكرون ذكرى، أي تذكرة.
وأجاز الزمخشري في ذكرى أن يكون مفعولًا له، قال: على معنى أنهم ينذرون لأجل الموعظة والتذكرة، وأن تكون مرفوعة صفة بمعنى منذرون ذوو ذكرى، أو جعلوا ذكرى لإمعانهم في التذكرة وإطنابهم فيها.
وأجاز هو وابن عطية أن تكون مرفوعة على خبر مبتدأ محذوف بمعنى هذه ذكرى، والجملة اعتراضية.
قال الزمخشري: ووجه آخر، وهو أن يكون ذكرى متعلقة بأهلكنا مفعولًا له، والمعنى: وما أهلكنا من قرية ظالمين إلا بعدما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم، لتكون تذكرة وعبرة لغيرهم، فلا يعصوا مثل عصيانهم.
{وما كنا ظالمين}، فنهلك قومًا غير ظالمين، وهذا الوجه عليه المعول. انتهى.
وهذا لا معوّل عليه، لأن مذهب الجمهور أن ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها إلا أن يكون مستثنى، أو مستثنى منه، أو تابعًا له غير معتمد على الأداة نحو: ما مررت بأحد إلا زيد خير من عمرو.
والمفعول له ليس واحدًا من هذه الثلاثة، فلا يجوز أن يتعلق بأهلكنا.
ويتخرج جواز ذلك على مذهب الكسائي والأخفش، وإن كانا لم ينصا على المفعول له بخصوصيته.
{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210)}.
كان مشركو قريش يقولون: إن لمحمد تابعًا من الجن يخبره كما يخبر الكهنة، فنزلت، والضمير في {به} يعود على القرآن، بل {نزل به الروح الأمين}.
وقرأ الحسن: الشياطون، وتقدمت في البقرة، وقد ردها أبو حاتم والقراء؛ قال أبو حاتم: هي غلط منه أو عليه.
وقال النحاس: هو غلط عند جميع النحويين.
وقال المهدوي: هو غير جائز في العربية.
وقال الفراء: غلط الشيخ، ظن أنها النون التي على هجائن.
فقال النضر بن شميل: إن جاز أن يحتج بقول العجاج ورؤبة، فهلا جاز أن يحتج بقول الحسن وصاحبه، يريد محمد بن السميفع، مع أنا نعلم أنهما لم يقرآ بها إلا وقد سمعا فيه؟ وقال يونس بن حبيب: سمعت أعرابيًا يقول: دخلت بساتين من ورائها بساتون، فقلت: ما أشبه هذا بقراءة الحسن. انتهى.
ووجهت هذه القراءة بأنه لما كان آخره كآخر يبرين وفلسطين، فكما أجرى إعراب هذا على النون تارة وعلى ما قبله تارة فقالوا: يبرين ويبرون وفلسطين وفلسطون؛ أجرى ذلك في الشياطين تشبيهًا به فقالوا: الشياطين والشياطون.
وقال أبو فيد مؤرج السدوسي: إن كان اشتقاقه من شاط، أي احترق، يشيط شوطة، كان لقراءتهما وجه.
قيل: ووجهها أن بناء المبالغة منه شياط، وجمعه الشياطون، فخففا الياء، وقد روي عنهما التشديد، وقرأ به غيرهما. انتهى.
وقرأ الأعمش: الشياطون، كما قرأه الحسن وابن السميفع.
فهؤلاء الثلاثة من نقلة القرآن، قرأوا ذلك، ولا يمكن أن يقال غلطوا، لأنهم من العلم ونقل القرآن بمكان.
وما أحسن ما ترتب نفي هذه الجمل؛ نفى أولًا تنزيل الشياطين به، والنفي في الغالب يكون في الممكن، وإن كان هنا لا يمكن من الشياطين التنزل بالقرآن، ثم نفى انبغاء ذلك والصلاحية، أي ولو فرض الإمكان لم يكونوا أهلًا له، ثم نفى قدرتهم على ذلك وأنه مستحيل في حقهم التنزل به، فارتقى من نفي الإمكان إلى نفي الصلاحية إلى نفي القدرة والاستطاعة، وذلك مبالغة مترتبة في نفي تنزيلهم به، ثم علل انتفاء ذلك عن استماع كلام أهل السماء مرجومون بالشهب.
ثم قال تعالى: {فلا تدع مع الله إلهًا آخر}: والخطاب في الحقيقة للسامع، لأنه تعالى قد علم أن ذلك لا يمكن أن يكون من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال المفسرون: المعنى قل يا محمد لمن كفر: لا تدع مع الله إلهًا آخر.
ثم أمره تعالى بإنذار عشيرته، والعشيرة تحت الفخذ وفوق الفصيلة، ونبه على العشيرة، وإن كان مأمورًا بإنذار الناس كافة.
كما قال: {أن أنذر الناس} لأن في إندارهم، وهم عشيرته، عدم محاباة ولطف بهم، وأنهم والناس في ذلك شرع واحد في التخويف والإنذار.
فإذا كانت القرابة قد خوفوا وأنذروا مع ما يلحق الإنسان في حقهم من الرأفة، كان غيرهم في ذلك أوكد وأدخل، أو لأن البداءة تكون بمن يليه ثم من بعده، كما قال: {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار} وقال عليه الصلاة والسلام حين دخل مكة: «كل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدميّ هاتين، فأول ما أضعه ربا العباس» إذ العشيرة مظنة الطواعية، ويمكنه من الغلظة عليهم ما لا يمكنه مع غيرهم، وهم له أشد احتمالًا وامتثل صلى الله عليه وسلم ما أمره به ربه من إنذار عشيرته، فنادى الأقرب فالأقرب فخذًا.
وروي عنه في ذلك أحاديث.
{واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين}: تقدم الكلام على هذه الجمل في آخر الحجر، وهو كناية عن التواضع.
وقال بعض الشعراء:
وأنت الشهير بخفض الجناح ** فلا تك في رفعه أجدلا

نهاه عن التكبر بعد التواضع.
والأجدل: الصقر، ومن المؤمنين عام في عشيرته وغيرهم.
ولما كان الإنذار يترتب عليه إما الطاعة وإما العصيان، جاء التقسيم عليهما، فكان المعنى: أن من اتبعك مؤمنًا، فتواضع له؛ فلذلك جاء قسيمه: {فإن عصوك} فتبرأ منهم ومن أعمالهم.
وفي هذا موادعة نسختها آية السيف.
والظاهر عود الضمير المرفوع في عصوك، على أن من أمر بإنذارهم، وهم العشيرة، والذي برىء منه هو عبادتهم الأصنام واتخاذهم إلهًا آخر.
وقيل: الضمير يعود على من اتبعه من المؤمنين، أي فإن عصوك يا محمد في الأحكام وفروع الإسلام، بعد تصديقك والإيمان بك، {فقل إني بريء مما تعملون}، لا منكم، أي أظهر عدم رضاك بعملهم وإنكارك عليهم.
ولو أمره بالبراءة منهم، ما بقي بعد هذا شفيعًا للعصاة. اهـ.